- ادباءمن القدس=======محمد إسعاف النشاشيبي
هو محمد إسعاف بن عثمان بن سليمان النشاشيبي، وُلِد في عام 1885م بالقدس لأبٍ من كبار أثرياء الشام.. فعاش ربيبَ نعمة، في سعة من العيش وبَسطة في الرزق.
وُلِد وعاش في القدس، وتعلّم في المدرسة البطريركيّة ببيروت، ثم كَتب كثيراً في الصحف والمجلات، ونَظَمَ الشعرَ ثم تركه، وقد وَرِثَ عن أبيه ثروةً عظيمة.
والعلامة إسعاف النشاشيبي أحدُ علماء القدس الشريف، نذَر حياته للذَّوْدِ عن اللغة العربية التي تمثّل جزءًا أساسياً من الشخصية الإسلامية. وعاش مجاهدًا بلسانه وقلمه، عَلَمًا للأدب وواحدًا من رجالات عصره الذين أمدهم الله بموهبة فَذَّةٍ بلَّغتْهم كمالَ القول وجمالَ التعبير، وبقدر ما كان ذلك العَلَمُ ضئيلَ الجسم نحيلَه كان يأخذ بزمام الأمور في المجالس إذا تحدّث، ويوجّه دفة الحديث إذا أَطلق لسانَه مُتناوِلاً قضيةً من القضايا، في حضور كرام العلماء والأدباء والشعراء، ورجال السياسة والسفراء.
أحوال عصره:
عاصر أديبنا النشاشيبي حِقْبَة التراجع العربي والإسلامي، وانْقِضَاض الاستعمار الأوروبي على المشرقِ الإسلاميِّ أواخرَ القرنِ التاسعِ عَشَرَ وأوائل القرن العشرين، ورأى من قومه أقلاماً وألسنة مفتونةً تنادي بأخذ حضارة الغرب بحَسَنِها وخبيثِها، ومَنْ ينادي باستعمال الحروف اللاتينية في الكتابة إمعانًا في الانْسلاخِ من كلّ ما يمتُّ للهوية بصلة. وقد صبَّ النشاشيبي نيرانَ غضبِه على المتغرِّبين المنسلِخين من إسلامهم، الداعِينَ إلى إهْدَارِ العربية ونبذها.
مواقفه:
حينما قلَّدَهُ رئيسُ جمهورية لبنان وسامَ الاستحقاق المذهّب، قام النشاشيبي فألقى خطبة بليغة، جاء فيها: ".. وإنَّا ـأممَ اللسانِ الضادِيِّـ لَعُرْبٌ، وإن لغتَنا هي العربيةُ، وهي الإرْثُ الذي ورِثْنَاهُ. وإنَّا لَحَقِيقُونَ -والآباءُ هُمُ الآباءُ واللغةُ هي تلك اللغةُ- بِأَنْ نَقِيَ عربيةَ الجنسِ وعربيةَ اللغةِ، نَقِيَ العَرَبِيَّتَيْنِ مما يَضيرُهُمَا أو يُوهِنُهُمَا..".
أعماله:
راح العلامة النشاشيبي يُصدِر مؤلَّفاته التي ظهر فيها نُضجٌ كبير وعمقٌ في الرؤية والفهم، داعيًا أمته إلى المجاهدة التي لن تنجح بالإيمان والشجاعة وحدهما، بل لا بدّ معهما من الإحاطة بالعلوم الحديثة، وقد أشار إلى أنَّ انتماءَه للعربية لا يَعني إغفالَه لما تَحْوِيهِ الحضارةُ الأوروبيةُ من جوانبَ مهمةٍ يَنْبَغِي استيعابُها.. ولم يدْعُه إيمانُه العظيمُ بحضارة المسلمين إلى نَبْذِ الحضاراتِ الأخرى والنَّأْيِ عن التزوُّدِ منها بما يتفق وروحَ الإسلام، ويُعيّن على الجهاد. فمن أقوالِه في كتاب "قلب عربي وعقل أوروبي": "تِلْكُمْ مَدَنِيَّةُ الغرب، فالخيرُ كلُّ الخيرِ في أنْ نَعرفَها، والشرُّ كلُّ الشرِّ في أنْ نَجهلَها، وإنّا إذا عَادَيْنَاهَا -وهي السائدةُ السَّاطِيَةُ- اسْتَعْلَتْنَا، وإنَّا إذا نابذْناها ونَبَذْنا عليها حَقرتْنا، وهي مدنِيّةٌ قد غَمَرَت الكرةَ الأرضيةَ، فليس ثَمَّةَ عاصمٌ وإنْ أَوَيْتَ إلى المِرِّيخِ".
وكان النشاشيبي أحد أعضاء المَجْمَعِ العلمي العربي بدمشق، ونُعِتَ بأديب العربية، وقد أثْرى المكتبةَ العربيةَ بعدة مؤلفات كرَّسَهَا لتخدم العربية ولتتناول عظماء العرب بما هم أهلُه من إبراز المحاسن والمنجزات، ومن تلك المؤلفات: "كلمة في اللغة العربية"، "قلب عربي وعقل أوروبي"، "العربية في المدرسة"، "البطل الخالد صلاح الدين"، "الشاعر الخالد أحمد شوقي"، "العربية وشاعرها الأكبر أحمد شوقي". وكانت مجلة الرسالة تَعقد ندواتٍ أدبيةً ثريةً تدعو إليها خيرةَ رجال الأدب والعلم، ومن هنا توطّدت العلاقةُ بين الأستاذ النشاشيبي وبين الأديب الكبير أحمد حسن الزيّات، صاحب مجلة الرسالة، الذي أثنى على النشاشيبي بقوله: "لقد وَقَفَ نفسَه وجهدَه على دراسةِ الإسلام الصحيح في مصادره الأولى، وتحصيلِ اللغة العربية وعلومِها وآدابِها من منابعِها الصافية، فكان آيةً من آيات الله في سعة الاطّلاع وتَقَصِّي الأطراف، وتمحيص الحقائق.. لا تُذكَر مسألة إلا كان له عنها جواب، ولا تُثار مشكلة إلا أشْرَقَ له فيها رأيٌ، ولا تُروَى حادثةٌ إلا أورد عليها المَثل، ولا يَحضر ندوتَه أديبٌ مطَّلِعٌ إلا جلس فيها جلسة المستفيد، فهو من طراز أبي عبيدةَ (معمر بن المثنى) والمُبَرِّدِ، لذلك كان أكثرُ ما يكتبه تحقيقًا واختيارًا وأماليَّ، وكان خاتمةَ طبقة من الأدباء اللُّغويين المحقِّقين".
لقد نَفَذَ النشاشيبي إلى أعماق العربية، وفي سبيلها تجرع كئوس التعب، حتى نَبَشَ جُلَّ كتبِها تحصيلاً وفهمًا واستظهاراً، يتجلى ذلك بأقلِّ متابعةٍ لكتاباته التي حَوَتْ بين جنباتها عِلمًا ونوادرَ وطُرَفًا منتقاةً من مئات الكتب لأرباب البلاغة والبيان من أمثال: "عيون الأخبار" لابن قتيبة، و"شرح نهج البلاغة" لابن أبي الحديد، و"معجم البلدان" و"معجم الأدباء" لياقوت الحموي، و"خاص الخاص"، و"يتيمة الدهر" للثعالبي..
وفاته:
كان الرجلُ شغوفًا بالقاهرة، متطلّعًا لشاعرِها الأكبرِ صديقِه الحميمِ؛ أحمد شوقي، يَفِدُ إليها كلَّ عامٍ مُتَطَبِّبًا، وربما طَبَعَ بعضًا من كُتُبِهِ. وفي شتاء عام 1948م كان على موعدٍ مع القدر، حيث قَضَى نحبَه بأحد مستشفيات القاهرةِ بعد حياةٍ حافلةٍ بالعطاء زاخرةٍ بالجهاد والكدّ والمصابرة.
خــليــل الســكــــاكــيــنــي
خليل السكاكيني (23 يناير 1878 - 13 أغسطس عام 1953) أديب ومرب فلسطيني مقدسي مسيحي اهتم باللغة والثقافة العربية ويعتبر من رواد التربية الحديثة في الوطن العربي [1] الأمر الذي كان له أثر كبير في تعليم عدة أجيال. وكان عضوا في المجمع اللغوي في القاهرة.
نشر له إثني عشر مؤلفا في حياته. عاش في فترات متلاحقة في كل من فلسطين والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية وسوريا ومصر. اعتقل في القدس أثناء الحرب العالمية الثانية وسجن في دمشق ولكنه تمكن من الخلاص من سجنه والتحق بقوات الثورة العربية. وفي طريقه للانضمام اليهم كتب نشيد الثورة العربية. [2]
حياته المبكرة وانتقاله لأمريكا
ولد خليل السكاكيني في القدس وتلقى تعليمه في المدرسة الأرثوذكسية في القدس، ثم انتقل إلى الكلية الجمعية الإنجليكانية التبشيرية (CMS) ومنها إلى كلية صهيون الإنجليزية في القدس ودرس فيها الآداب. ثم انتقل بعد تخرجه عام 1908 إلى المملكة المتحدة لفترة وجيزة انتقل بعدها إلى أمريكا. حيث عمل في تعليم اللغة العربية وساهم في كثير من المطبوعات الصادرة في ولايات الساحل الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية كما قام بالكثير من أعمال الترجمة. لكنه قرر العودة إلى الوطن قبل مضي عام على قدومه إلى أمريكا.
عودته إلى فلسطين
حال عودته إلى فلسطين، عمل السكاكيني صحفيا في جريدة الأصمعي المقدسية كما درَّس اللغة العربية في مدرسة الصلاحية في القدس. وامتد نشاطه إلى تدريس الأجانب اللغة العربية فيما يعرف بالأميريكان كولوني (the American Colony) في القدس. إلا أنه قرر أن ينشيء مدرسته الخاصة في القدس عام 1909 أسماها بمناسبة أعتماد دستور الامبراطورية العثمانية الجديد، المدرسة الدستورية.
المدرسة الدستورية
ما إن افتتحها حتى ذاع صيتها بسبب توجهها الوطني وبسبب منهاجا رائدا في ذلك الوقت اتبعه خليل السكاكيني فيها. لم يعتمد فيها نظام الدرجات، ولم يتبع أسلوب العقاب والثواب، وإنما ركز على التعليم والموسيقى والتربية البدنية.
مواجهته لكنيسة الروم الأرثوذكس
تمسك خليل السكاكيني بعروبته دعاه لمطالبة كنيسة الروم الأرثودكس في القدس إلى تعريب لغتها وتعريب الصلوات فيها وطالبها وبأن لا يصلى فيها باللغة اليونانية وأن لا تستخدم فيها إلا اللغة العربية، ونشر في هذا الصدد منشورا عام 1913 بعنوان "النهضة الأرثوذكسية في فلسطين". هذا الأمر دعا الكنيسة إلى إعلان إبعاده منها.
منهجه في التعليم
آمن بتحديث وسائل التعليم واستخدام الوسائل البصرية. وكتب عدة مؤلفات تشرح منهجه كما أنه أعد وألف الكثير من كتب المناهج الدراسية في مجال اللغة العربية. وكان من أهمها كتاب اللغة العربية للصف الأول الإبتدائي الذي يبدأ بدرس كلمتي (راس - روس) [3] المدعمة بالصور والشرح. وقد درس هذا الكتاب عشرات الآف من الطلاب من بدايات العشرينات وحتى عدة سنوات بعد وفاته وإلى منتصف الستينات.
سجنه
في نوفمبر 1918، أثناء الحرب العالمية الأولى طالبت الحكومة المواطنين الأمريكيين بتسليم أنفسهم وإلا عدّوا جواسيس. أحد معارف السكاكيني، آلتر ليفين الذي كان يهوديا أمريكيا لم يسلم نفسه بل التجأ إلى بيت خليل السكاكيني الذي آواه لعدة أيام إلى أن اكتشفت الشرطة أمره فتم اعتقالهما ونقلا إلى السجن في دمشق.
قضى خليل السكاكيني في السجن حوالي شهرين ونصف، تم بعدها إطلاق سراحه بالكفالة ثم تمت تبرئته لاحقا، إلا أن احتلال إنجلترا لفلسطين حال دون عودته، فأقام في دمشق حوالي 10 أشهر حتى آب / أغسطس 1918 حين غادرها مع مجموعة من الرجال للإنضمام إلى الثورة العربية الكبرى في الحجاز. ثم جاء مصر لكن السلطات الإنجليزية منعته من دخول فلسطين فأقام في مصر نحو شهرين حتى تمكن من العودة إلى القدس.[4]
عمله الحكومي
عين عام 1919 مديرا لدار المعلمين في القدس لكنه استقال احتجاجا على تعيين هربرت صموئيل اليهودي الأصل ليشغل منصب المندوب السامي لبريطانيا في فلسطين. بعد مغادرة هربرت صموئيل فلسطين عاد للعمل مفتشا عاما للغة العربية في فلسطين. وبدأ بكتابة مقالاته وأشعاره السياسية المعارضة في المقتطف والهلال والسياسة الأسبوعية.
مدارس أنشأها
المدرسة الدستورية عام 1909
المدرسة الوطنية عام 1925
كلية النهضة في القدس عام 1938
مؤلفاته
فلسطين بعد الحرب الكبرى (القدس سنة 1920)
مطالعات في اللغة والأدب (القدس سنة 1925)
سريّ (القدس سنة 1935)
حاشية على تقرير لجنة النظر في تيسير قواعد اللغة العربية (القدس سنة 1938)
لذكراكِ (القدس سنة 1940)
وعليه قس (القدس سنة 1943)
ما تيسّر - جزءان (القدس سنة 1943، 1946)
الجديد في القراءة العربية - أربعة أجزاء (القدس بين سنة 1924 وسنة 1933). (انظر مادة الجديد المعدل في القراءة العربية في هذه الموسوعة).
الأصول في تعليم اللغة العربية - الدليل الأول والدليل الثاني (القدس سنة 1934،1936)-
- روحي الخالدي
ولد روحي الخالدي في بيت المقدس سنة 1864 في محلة باب السلسلة، أحد أبواب الحرم القدسي الشريف، وتحدر من أسرة الخالدي الشهيرة في القدس وسائر المدن الفلسطينية ونشأ في بيت يعرف بالعراقة والعلم والأدب، أنجب أدباء وعلماء وقضاة ونواباً... كان منهم صلاح الدين خليل الخالدي المؤرخ الشهير، ويوسف ضياء باشا الخالدي عضو مجلس النواب العثماني الأول، والذي كان من صفوة أعضائه وأوفرهم علماً وفضلاً وأدباً، ومنهم أيضاً الشيخ راغب الخالدي مؤسس المكتبة (الخالدية) في مدينة القدس سنة 1900، والشيخ خليل الخالدي الموصوف بسعة الإطلاع على المخطوطات العربية النادرة، ومنهم السياسي الدكتور حسين فخري الخالدي رئيس بلدية القدس، ورئيس وزراء إحدى الحكومات الأردنية السابقة، بعد تشكيل المملكة الأردنية، ومنهم أيضاً والد روحي الخالدي، ياسين الخالدي الذي كان نائباً في مجلس النواب العثماني (مجلس المبعوثان).
أما أسرة الخالدي فينسبها مؤرخو الأنساب إلى قرية (الدير) القريبة من مدينة نابلس، ومنهم من ينسب الأسرة إلى حي (الدير) بحارة المرداويني في بيت المقدس الشريف وليس إلى قرية الدير السابقة الذكر، والتي هي من أحواز نابلس، وترجعهم بعض دراسات المؤرخين إلى أنهم من فرع من بني عبس الذبياني وأن نسبة (الخالدي) تعود إلى رجل من مشاهير رجالهم اسمه (خالد) عرف بطيبته وشجاعته ومعرفته بشؤون العُرف والقضاء. وقد أورد صاحب معجم (من أعلام الأدب في فلسطين) يعقوب العودات نسب روحي الخالدي في سلسلة الأعلام التالية حين قال: (هو روحي بن ياسين بن محمد علي بن محمد بن خليل بن شرف الدين بن عبد الله بن طه بن صالح بن يحيى بن نجم الدين محمد بن زين الدين عبد اللطيف بن شمس الدين محمد بن عبد الله بن سعد بن أبي بكر ابن مصلح بن الديري)
إذاً، ولد روحي الخالدي في بيت وافر النعمة والأدب، فبعد ولادته بسنتين فقط، وفي عهد محمد راشد باشا والي سورية انتخب والده ياسين بن محمد علي الخالدي عضواً في المجلس العمومي ببيروت كنائب عن القدس، ثم عيّن نائباً عن طرابلس الشام. وقد كان ياسين الخالدي عضواً بارزاً في حزب الإصلاح (أشهر الأحزاب العثمانية آنذاك)، والذي كان محمد راشد باشا والي سوريا أحد أعضائه البارزين... وحين عُزل محمد راشد باشا عن ولاية سورية تزعزعت مكانة أنصاره بعدما أساء إليهم خلفه، فعاد ياسين الخالدي مع أسرته إلى مدينة القدس، وإذْ ذاك كان لابنه روحي من العمر ست سنوات، فأدخل إلى مجالس (الكتاتيب)، ومن ثم تابع تحصيله العلمي في المدارس الابتدائية الأميرية. وحين تولى مدحت باشا ولاية الشام أخذ يجمع حوله من يثق بإخلاصهم ونزاهتهم ممن كانوا أعضاء في حزب الإصلاح، أو ممن كانوا قد عملوا في دوائر الدولة العثمانية وولاياتها من ذوي السمعة الطيبة، وراح يعيدهم إلى مراكزهم الأصلية التي كانوا يشغلونها، وكان من بين هؤلاء والد روحي الخالدي. وبذلك انتقلت الأسرة من القدس إلى نابلس. وهناك دخل روحي الخالدي إلى [المكتب الرشْدي] وهو مكتب دراسي يعادل الصفوف الابتدائية الأخيرة (الرابع ـ الخامس ـ السادس). لكن مقام الأسرة لم يطل في نابلس، فقد انتقلت إلى طرابلس الشام حيث عيّن مدحت باشا ياسين الخالدي قاضياً شرعياً للمدينة. وهناك التحق روحي بالمدرسة الوطنية التي أنشأها الشيخ حسين الجسر، والتي كانت تنافس غيرها من المدارس لما حوته من وسائل حديثه تُعين الطالب في الدراسة، وترغبه في المدرسة.
في عام 1880، كان روحي الخالدي ابن أربعة عشر عاماً، حين اصطحبه عمه عبد الرحمن الخالدي معه إلى الآستانة، لمتابعة دراسته المتوسطة، وقد لقي عمه آنذاك حفاوة وتكريماً واسعين من شيخ الإسلام في الآستانة (الشيخ عرياني زاده أحمد أفندي)، الذي أنعم على روحي الخالدي وهو فتي برتبة (رؤوس بروسة) وهي أول درجة في سلم المراتب العلمية، وكسوتها جبة زرقاء مطرزة بالقصب عند الياقة، وعمامة عليها شريط مقصب، ويلقب صاحب هذه الرتبة بـ (قدوة العلماء المحققين) ويعد مدرساً في مدرسة رابعة الخير في (بروسة).
ولم يمضِ، روحي الخالدي وقتاً طويلاً في الآستانة، فقد عاد إلى القدس، وعاد إلى حلقات العلم والدرس في المسجد الأقصى، يتلقى علوم الدين من (فقه، وتجويد، وحديث) وعلوم الأدب من (صرف ونحو، وبيان وبديع)، وعلوم الفلسفة من (كلام، ومنطق) أيضاً. وفي الفترة ذاتها راح يتردد على المدارس المعروفة في القدس مثل مدرسة (الأليانس) التي تدرس موادها باللغتين العربية والفرنسية، والمدرسة (الصلاحية) ليتقن فيها اللغة الفرنسية. وبعد هذا المشوار من المتابعة الشخصية للدراسة في حلقات الدرس في المسجد الأقصى، والمدارس الرسمية أو شبه الرسمية في القدس، التحق روحي رسمياً بالمدرسة السلطانية في بيروت، وكان يديرها ويشرف عليها الشيخ حسين الجسر، وتعادل في تعليمها المرحلة الثانوية حالياً وظلَّ فيها مدة من الزمن، ثم تركها دون أن يكمل التعليم فيها لأنها أُغلقت، فعاد إلى القدس ليواصل حضور حلقات الدراسة في المسجد الأقصى وحين عين في إحدى دوائر المدينة انقطع عن الدراسة، لكن إكمال تعليمه ظل هاجساً لديه، كما أن السفر إلى الآستانة ظلَّ مرافقاً له على الدوام. وقد بذل من أجل تحقيق هذا الأمر جهداً كبيراً، ولاسيما بشأن إقناع والديه بسفره. وفي الأستانة قدم أوراقاً مدرسية رسمية أهلته للدخول في المكتب الملكي الشاهاني، وهو معهد له صبغة حقوقية، يشبه ما يتعارف عليه اليوم باسم كلية الحقوق. وقد درس فيه مدة ست سنوات، نال بعدها شهادته العالية، واكتسب خبرة حياتية عرّفته بشؤون الحياة وبالمناخ الثقافي والسياسي والاجتماعي السائد في الأستانة.
بعد حصوله على شهادة المعهد الحقوقي العالية عاد روحي الخالدي إلى القدس، وعيِّن معلماً في مكتبها الإعدادي. غير أن طموحه لم يقف عند هذه الوظيفة المتواضعة التي عدّها أدنى من مأمولـه في الحياة، فعاد إلى الآستانة متقرباً من معارفه ذوي الرأي والنصيحة والمشورة في الديار السلطانية طالباً تعيينه في وظيفة (قائم مقام) لأحد الأقضية، لاسيما أنه يحمل من الشهادات العلمية ما يؤهله لذلك، إلى جانب ما لديه من النسب والحسب. وكاد أن يصل إلى مراميه وغاياته، لولا ما لقيه من المفسدين والمخبرين وأصحاب الدسائس الذين أوغروا صدور المسؤولين عليه، فارتد عائداً إلى القدس مسقط رأسه. وبعد فترة رحل إلى باريس لمواصلة تحصيله العلمي هناك، غير أن التوقيت لم يكن مناسباً للانتظام في الدراسة، فقصد الآستانة مرة أخرى، وهناك... راح يتقرب فيها من رجالات العلم والأدب والدين والفكر. فتعرف إلى العلامة جمال الدين الأفغاني، وأخذ يحضر دروس العلم التي كان يلقيها في مجلسه.
وبفضل ثقافته وسعة إطلاع أدناه جمال الدين الأفغاني منه وجعله من خاصته ومريديه الذين يبوح لهم بأسرار نفسه. وعندما أخذ المخبرون ينقلون أخبار تردده على مجالس العلم، وما يقوله، وما يقوم به من نشاطات فكرية وسياسية إلى ذوي الشأن، وأحسَّ روحي الخالدي بأنه مراقب في حركاته، وتصرفاته، وأقواله، ترك الآستانة وعاد إلى باريس والتحق بمدرسة العلوم السياسية، وأتمَّ دروسها في ثلاث سنوات. بعدئذ التحق بدار الفنون العالية (السوربون اليوم) ودرس فيها فلسفة العلوم والآداب الشرقية. ولما كان من الدارسين المجدين النجباء عين مدرساً للغة العربية وآدابها في جمعية نشر اللغات الأجنبية في باريس، وكان قد ذاع صيته بين أوساط المستشرقين وهو لم يزل طالباً وذلك لما اتسم به من سعة اطلاع وحسن تخريج للمعلومات، فدعي مرات عدة للمشاركة في الندوات والمؤتمرات الخاصة بالمستشرقين، وألقى فيها المحاضرات والبحوث المميزة.
لكنَّ حنينه إلى الآستانة لم يتلاشَ، إذ عاد إليها مرة أخرى بعد أن أنهى دراسته في باريس فعين مباشرة قنصلاً عاماً للدولة العثمانية في مدينة بوردو الفرنسية وتوابعها، وقد وافقت على تعيينه الحكومة الفرنسية بعد أن رفضت قبله أسماء كثيرة رشحت للقيام بمهام هذا المنصب الرفيع. وفي بوردو أظهر الخالدي نشاطاً فكرياً وأدبياً وسياسياً لافتاً للانتباه، وجعل من بوردو حاضرة للثقافة والفكر فأقام المؤتمرات والندوات والأنشطة السياسية التي تبحث وتحلل في الشؤون الدولية ومتغيراتها. ولم تمضِ فترة وجيزة على وجوده في بوردو حتى أًصبح رئيساً لجمعية القناصل في المدينة، بتزكية من جميع قناصل الدول في بوردو آنذاك وهناك تزوج من فتاة فرنسية من المدينة ذاتها وتقديراً لجهوده الأدبية والفكرية والديبلوماسية منحته الحكومة الفرنسية وسام نخلة المعارف الذهبية، ووسام فرقة الشرف (لجيونادونور). وبقي في منصبه القنصلي نحو عشر سنوات، كان خلالها ينشر بحوثه ودراساته الأدبية والفكرية في الصحف والمجلات العربية الشهيرة مثل الهلال.
بعد صدور الدستور العثماني في (24 / تموز / 1908) رجع روحي الخالدي إلى القدس، وتابع فيها نشاطه الفكري والسياسي، الأمر الذي جعل مواطنيه ينتخبونه نائباً عنهم في مجلس النواب العثماني (مجلس المبعوثان) وحين انتهت مدة النيابة في المجلس عاد أهالي القدس وجددوا انتخابه مرة ثانية، ليكون ممثلاً عنهم وعن القدس في الآستانة. وعندما حُلَّ مجلس المبعوثان 1912، عاد روحي الخالدي إلى القدس، ثم رجع إلى الآستانة، وفيها أصيب بحُمّى التفوئيد التي قضت عليه سريعاً، فمات في (6 / آب / 1913) ودفن هناك تكريماً وتقديراً لجهوده وخدماته التي قدمها للدولة العثمانية من جهة، وتقديراً لمزاياه الفكرية والسياسية الكثيرة من جهة ثانية.
إن اضطراب دراسة روحي الخالدي وضياع الوقت الطويل في الحصول على الشهادات العلمية، كان عائداً لطبيعة العصر الذي عاش فيه، ولظروفه الاجتماعية غير المؤاتية من حيث تنقل أسرته الدائم بسبب عمل والده في دوائر الولايات العثمانية ومراكزها. ولعل نظرة متأنية إلى الواقع التعليمي في فلسطين آنذاك ترينا بوضوح صعوبة إتمام التحصيل العلمي للطالب. فقد خلت الألوية الفلسطينية الثلاثة من أي نوع من أنواع التعليم العربي الرسمي (أي الحكومي) مثل الثانوي، والعالي، بل لم توجد مدرسة إعدادية في هذه الأولوية الثلاثة حتى عام 1889، أي بعد مولد الخالدي بحوالي ربع قرن من الزمان، حين أنشئ مكتب إعدادي في مدينة القدس وآخر في مدينة عكا سنة 1895 وثالث في نابلس سنة 1897. وكانت المدارس في تلك الفترة إما تجمعات (الكتاتيب) بمجهودات فردية محصورة في بعض المناطق والقرى، وغير مراقبة من قبل الدولة.. وهي مقتصرة في نشاطاتها على تهذيب التلميذ، وإكسابه الخلق الحسن وتحفيظه بعض آيات القرآن، وبعض أحكام التجويد، وإما أن تكون المدارس أوسع قليلاً ذات صبغة دينية، وهي مدارس وقفية تشرف عليها هيئات دينية، وكانت في أغلبها ملحقة بالمساجد. أما النوع الثالث من المدارس فهو الذي أشرنا إليه سابقاً أي المدارس الحكومية، وهي قليلة العدد، متدنّية المستوى المعرفي، أساتذتها أنصاف متعلمين، وفيها تدرس المواد باللغة التركية.
وفي عصر روحي الخالدي لم يكن التعليم بميسور لجميع الأسر من مختلف الطبقات الاجتماعية لذلك لم ينل من أبناء فلسطين الحظ في التعليم العالي أو المتقدم، إلا من كان من أبناء العائلات الغنية في المدن الفلسطينية البارزة مثل القدس، ونابلس، والناصرة، وعكا.
الخالدي آثاره وأخباره
ذاع صيت روحي الخالدي في العقد الأخير من القرن التاسع عشر والعقد الأول من القرن العشرين، حيث فتحت له كبرى مجلات الوطن العربي الأدبية آنذاك صدر صفحاتها، وراح رؤساء تحرير تلك المجلات (خصوصاً جرجي زيدان ريئس تحرير مجلة الهلال المصرية) يكاتبه راجياً تزويده بمقالاته عن الأدب الفرنسي باعتباره رجلاً فهامة في الأدبين العربي والفرنسي، ولعل أهم ما كتبه في هذا المجال بحثه الطويل المعروف والذي نشر على حلقات عن الكاتب الفرنسي الشهير فيكتور هيغو، ثم بحثه في تاريخ علم الآداب والتأثر والتأثير ما بين الآداب العربية والغربية ووقوفه على أهم المصطلحات الأدبية وبيان مدلولاتها والوصول وضع تعريفات دقيقة جداً قياساً إلى ما كان يعرف عنها في ذلك الزمن.
والحق أن المشتغلين بالأدب لم ينكروا فضل روحي الخالدي وريادته في مجال الأدب المقارن ما بين آداب العرب والغرب، وذلك من حيث وضعه للأسس الأولى للمقاربات المقارنية المبكرة جداً ما بين الأدبين، كما أن المشتغلين بتراجم الأدباء والمفكرين والأعلام لم يغفلوا ذكر روحي الخالدي بين أبرز الأسماء الأدبية التي كانت في عصره. فقد ورد ذكره، وذكر جهده الأدبي في العديد من كتب التراجم والأعلام العرب، ولنبدأ أولاً بما قاله المشتغلون بالأدب من فلسطين. لقد تعرضت المراجع الأدبية الفلسطينية إلى روحي الخالدي بوصفه أديباً وعلماً فذاً، كان أول من مد جسور الثقافة والمثاقفة ما بين الآداب العربية والغربية، وعمل على نقل ما بين الثقافة العربية والثقافة الغربية في أكثر من مجال ومنحى.
أما آثاره الأدبية فهي:
ـ رسالة في سرعة انتشار الدين المحمدي وفي أقسام العالم الإسلامي (محاضرة ألقاها في عام 1896 في دار الجمعيات العلمية في باريس، نشرت في جريدة طرابلس الشام، ثم صدرت في كتاب مستقل).
ـ المقدمة في المسألة الشرقية منذ نشأتها إلى الربع الثاني من القرن الثامن عشر (محاضرة ألقاها أيضاً في دار الجمعيات العلمية في باريس سنة 1897، وظهرت في كتاب في مدينة القدس).
ـ تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب وفيكتور هيغو (صدرت الطبعة الأولى منه سنة (1904) في القاهرة تحت هذا العنوان واسم المؤلف هو المقدسي، ثم أعيد طبعه مرة ثانية سنة 1912 في مطابع مجلة الهلال المصرية ووضع اسم المؤلف الصريح: روحي الخالدي ويعود سبب توقيع الخالدي باسم المقدسي إلى خوفه من الاستبداد العثماني لأنه كان من المنادين بالحرية والاستقلال عن الدولة العثمانية.
ـ الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة (مقالتان، نشرت الأولى في مجلة الهلال سنة 1908 بتوقيع المقدسي للأسباب التي ذكرناها سابقاً، والثانية نشرت في العدد التالي من مجلة الهلال للعام نفسه، لكن هذه المرة بالاسم الصريح، وقد طبعتهما دار الهلال في كتاب مستقل سنة 1909.
ـ الكيمياء عند العرب ـ دار المعارف بمصر ـ سنة 1953
ـ رحلة إلى الأندلس ـ بلا تاريخ ـ بلا مكان للطبع.
وهناك مخطوطات ما تزال تنتظر الطباعة، منها:
ـ علم الألسنة أو مقابلة اللغات
ـ الصهيونية (كتاب غير مكتمل)
ـ تاريخ الأمة الإسرائيلية وعلاقتها بالعرب وغيرهم من الأمم
ـ تراجم أعلام الأسرة الخالدية (غير مكتمل)
ـ برتلو: العالم الكيماوي ـ الهلال ـ 1902
ـ حكمة التاريخ ـ جريدة طرابلس الشام 1903 (وقد أدّت هذه المقالة إلى تعطيل الجريدة ووقفها عن الصدور)
وهناك مراجع تشير إلى وجود كتاب مطبوع للخالدي تحت عنوان (الحبس في التهمة) ولعله مؤلف في الحقوق.
***
وأزعم أن أهم مؤلف وضعه روحي الخالدي كان (تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب وفيكتور هيغو) الذي سجل له بحق ريادته في مجال (المقارنية) أو ما اصطلح على تسميته بالأدب المقارن.
في بداية الكتاب يتحدث الكاتب في لمحة تأريخية عن تاريخ الأدب العربي منذ الجاهلية حتى عصره، وهو يبدي ثقافة واسعة وفهماً كبيراً في أبرز محطات الأدب العربي، ويخصص روحي الخالدي فصولاً عدة من كتابه للحديث عن تاريخ الأدب الفرنسي تحديداً معرجاً في البدء على الحديث عن جغرافية فرنسا والأسماء والألقاب التي سميت بها مثل (أرض الغول). ويسلسل تاريخ فرنسا مرحلة مرحلة حتى يصل إلى فتوحات العرب المسلمين لبعض أنحائها. ثم يتحدث عن الحروب الصليبية وآثارها الكبيرة والكثيرة في البلاد العربية والغربية معاً على مختلف الصعد والجوانب الحياتية. وينتهي إلى الحديث عن اقتباسات أدباء العرب من الشعر العربي والنثر العربي في آن واحداً مؤكداً أن أهم ما أخذه الغربيون من الشعر العربي هو علم القوافي، وأغراض القصيدة من مديح، وهجاء، وغزل، وحماسة. وأن الغربيين كانوا يستعملون، قبل أخذهم لعلم القوافي عن العرب، ما يسمونه (أسونانس) وهو اتحاد الأحرف الصوتية الأخيرة بقطع النظر عما بعدها من الأحرف الساكنة في نهاية كل بيتين مثل (ساج) و(آرم). وكان استعمالهم للقوافي في القرن الثالث عشر الميلادي. أما في مجال النثر فيذكر الخالدي أن الغربيين أخذوا عن العرب القصص والمُلح، وضروب الأمثال. وأن فرسان الأفرنج صاروا يقلدون فرسان العرب في قول الشعر،... فكانت فضائل الفارس المهارة في الفروسية، وحفظ الشعر، وقوله، ولعب الشطرنج. وكذلك اقتباسات الإفرنج للعلوم عن العرب كالطب، والكيمياء، والفلسفة. ويقف الخالدي مقارناً بين موضوع ملهاة (طارطوف) لموليير وأبيات للمعري وهذا يؤكد مدى تشابه التجارب الإنسانية بعيداً عن النقل والمنقول أو التأثر والتأثير، ثم مقارنة بين فيكتور هيغو وأبي العلاء المعري في أكثر من موضع في كتابه (تاريخ علم الأدب).
وبعد، فالحديث عن روحي الخالدي، وأدبه أمر محبب إلى النفس، فهو عالمٌ وأديبٌ وسياسيٌ، وصاحب ثقافة واسعة، وغيرة وطنية صادقة. وقد أسهم إسهاماً جليلاً وموصوفاً في تثمير الشأن الثقافي، والفكري، والسياسي، والوطني. وبمقدورنا أن نقول إنه لولا الكبْت الاستبدادي العثماني والدسائس الكثيرة، والوشايات المتكاثرة ضده وضد غيره من أعلام النهضة العربية لكان بميسورنا الآن أن نعدد له عشرات المؤلفات المطبوعة عن تلك المرحلة وما حفلت به من أحداث جسام، وتطورات شديدة الخطورة في واقع الحياة.
ادباءمن القدس
-
- روحي الخالدي
0 التعليقات:
إرسال تعليق